عثرت علي هذا المقال القيم للدكتور عصام العريان حيث كتبهلمجلة المجتمع منذ عامين بعنوان الوفاء لنهج البنا
أشعر بتقصير شديد كفرد من الإخوان المسلمين تجاه الإمام الشهيد حسن البنا، فلقد بدأت أثناء فترة سجني لمدة 5 سنوات شرحاً لبعض رسائله ونشرت منه حوالي عشر حلقات في مجلة المجتمع الكويتية الغراء ثم توقفت ولم أكمل شرح رسالة دعوتنا ولم أنجح في استكمالها بعد خروجي أو حتى طبع ما نُشِر منها، وشاركت في لجنة للإعداد لاحتفالية بذكراه المئوية لمولده وذلك أثناء مشاركتنا في مئوية الإمام المودودي بكلمة عن فضيلة المرشد ثم شغلتنا المظاهرات والسجون والانتخابات والبرلمان.أحاول الآن إعادة شرح رسالة دعوتنا كبداية لإكمال رؤية تحليلية لفهم نهج حسن البنا في التفكير والعمل لخدمة الإسلام والمسلمين.لماذا هذا الاهتمام بنهج حسن البنا؟أولاً: لأن مدارس العمل الإسلامي تعددت وبعضها صار أعلى صوتاً من نهج البنا ويخطف الأنظار ويشتت الأفكار.ثانياً: لأن الكثير من الإخوان أنفسهم لم يعيدوا قراءة ودراسة رسائل البنا، ولا أنسى زيارة لي إلى الولايات المتحدة خلال الثمانينيات وفي تجوالي مع الإخوان وزيارتي لبيوتهم كنت أسأل عن كتاب "مجموعة الرسائل" لحسن البنا لأستعين بها في إعداد بعض محاضراتي فلا أجده إلا أخيراً عند أخ سوداني من أنصار الجبهة القومية الإسلامية.ثالثاً: أن كثرة روافد الفكر عند أفراد الإخوان بعد فترة الانقطاع الطويلة لكتب البنا وغياب الروَّاد الأوائل الذين عاصروه وتربوا على يديه لمدد طويلة داخل السجون أدَّت إلى اختلاط المفاهيم عند بعض الإخوان، والسبب في ذلك أمران:الأول: أن حسن البنا عليه رحمة الله كان متعدد المواهب والجوانب العملية والحركية، لذلك أخذ عنه تلاميذه ومريدوه كلٌ يغترف من جانب من جوانبه، ولم نجد ذلك المثال الواضح الحي الذي يجسّد نهج البنا المتكامل في الفقه والفكر والإدارة والتنظيم والعمل السياسي والتربية والدعوة... إلخ.الثاني: أنه نشأت داخل الإخوان مدارس جديدة في الفهم تختلف عن مدرسة البنا بعد استشهاده مثل:أ مدرسة التعجل وعدم التدرج التي رأت في استمرار النهج التربوي تأخيراً عن الوصول إلى ثمرة العمل، وهي إصلاح الحكم، فتعجلوا الوصول عبر الانقلاب العسكري عام 1952م فكانت النتائج المأساوية على مصر والعرب والإخوان.ب مدرسة التركيز على الفكر والإبداع وأسسها فريق من الشباب "لجنة الشباب المسلم".ج مدرسة التشدد والغلو التي ساهم في صياغة أفكارها سنوات السجن الطويلة والتعذيب البشع الذي مورس ضد الإخوان ومنظر عشرات الشهداء الذين علقوا على أعواد المشانق أو قتلوا تحت سياط التعذيب في السجون أو برصاص الحراس في الليمانات.وقد حاول الأستاذ حسن الهضيبي المرشد الثاني تصحيح مسيرة كل هذه المدارس المختلفة ونجح أحياناً وأخفق حيناً.. وهذه بعض المحاولات:أولاً: لم يكن متحمساً للمشاركة في الانقلاب عام 1952 والذي تحوّل إلى ثورة بعد ذلك ورفض المشاركة في حكومة الثورة وفق شروط الضباط الأحرار الذين اختاروا الوزيرين بأنفسهم ورفضوا ترشيحاته ودخل بعد ذلك في صدام مع الثوار الذين أرادوا تجيير دعم الإخوان كهيئة شعبية لبرنامجهم هم وليس لما تم الاتفاق عليه وكان ما كان من سجون واعتقالات وإعدامات.ثانياً: رفض بإصرار منهج "العنف المسلح" ودخل في صدام مع الجهاز الخاص وقياداته الذين قام بتغيير معظمهم ودمج النظام الخاص في أجهزة الدعوة العلنية وكانت محاولة عناصر النظام الانقلاب على قيادة الدعوة والجماعة بتحالف خطير مع قيادة الثورة وجمال عبدالناصر ضد الهضيبي وتم احتلال المركز العام والتعدي على المرشد في منزله، وانتصرت الشرعية وكانت المفاجأة التي صدمت الهضيبي هي المحاولة المشبوهة لاغتيال جمال عبدالناصر في حادث المنشية.ثالثاً: التصدي الفكري والفقهي للأفكار المتشددة والمغالية التي سرت في أوساط الأجيال الجديدة الشابة من الإخوان وقليل من قدامى الإخوان، وأدّت إلى بلبلة شديدة في صفوف الإخوان داخل السجون فكان تشكيل لجنة لمراجعة الكتابات والأفكار التي جاءت في كتابات الأستاذ المودودي والشهيد سيد قطب مما أدى في النهاية إلى صدور كتاب "دعاة لا قضاة" الذي كانت عليه مفاصلة تامة لإعادة الاعتبار إلى نهج حسن البنا المعتدل والوسطي وفاء للإمام ولفكره الواضح في الحكم على المسلمين والحكام وغيرهم.. كل ذلك رغم السجون والمحاكمات والإعدامات وما فعله عبدالناصر بالإخوان.
خرجت هذه الأفكار المتشددة إلى خارج الصف الإخواني. ولم تجد حياتها، ولا حيويتها داخل الصف الإخواني بسبب تصدي قيادة الجماعة وفقهاء والدعوة لها بسبب خطورتها على منهج الإخوان، وأنها تضرب صميم فكرة حسن البنا في ثوابتها الأصيلة مثل:1 القبول بالاختلاف في الفروع الفقهية وعدم تبني الجماعة للخيارات الفقهية المحددة إلا بسبب ضرورة حسم موقف من المواقف مع ترك حرية الأفراد في اتباع المذاهب الفقهية المعتبرة أو أئمة الدين الذين ليس لهم مذاهب ومدارس.2 نهج التغيير المتدرج السلمي الإصلاحي غير العنيف الذي يعتمد على التغيير من أسفل والبدء بالأفكار والسلوكيات، والاعتماد بعد الله تعالى على تغيير البشر والناس والعودة بالمسلمين إلى تطبيق أحكام دينهم في حياتهم الفردية والمجتمعية حتى يشكلوا قوة ضغط تخوض المجال العام والحياة السياسية لإجبار الساسة والتنفيذيين على الخضوع للإرادة الشعبية إذا لم يمتثلوا لمقتضى الإيمان طواعية، وإلا فيتم استخلاص القوة التنفيذية عن طريق النضال الدستوري عبر الآليات الديمقراطية التي لن تكتمل حلقاتها إلا بنضج الشعوب العربية والإسلامية.3 نهج التعاون المشترك مع المخالفين على كافة الأصعدة بدءاً بالهيئات الإسلامية مروراً بالساسة والسياسيين إلى الوصول إلى الأفق العالمي الإنساني، فليس هناك قطيعة مع العالم بل المطلوب هو احترام متبادل وتعاون على الخير لصالح الإنسانية، حتى مع الغرب المستعمر كانت كلمته واضحة: ارحلوا عن بلادنا ولنتبادل الرأي حول المصالح المشتركة.يدَّعي البعض أن هذه الأفكار المتشددة خرجت من عباءة الإخوان وأن هذه الجماعات التي نشأت منذ دخل الإخوان السجون هي أجنحة أخرى للجماعة، وهذا من أكبر الافتراءات التي يتقول بها البعض ضد الإخوان.أما أن هذه أفكار نتجت عن مدرسة الإخوان فيكفي تصدي الإخوان لها: كهيئة وجماعة وكأفراد وفقهاء، حتى تمت المفاصلة على أخطرها وهو التكفير، رغم أن البعض اعتمد على فهم خاص بكلمات وعبارات لأحد أبرز قادة الإخوان وشهدائهم: الشهيد سيد قطب، فلم يتخل المرشد الثاني ولا القيادة عن مهمة التصدي لها رغم السجون والمعتقلات وصعوبة البحث والدراسات وخطورة التواصل عبر عدة سجون ومعتقلات لنقل البحوث والدراسات وعقد ملفات النقاش والحوارات.
رؤية ومعايشة
وقد كتب المرحوم المهندس محمد الصروي رؤيته ومعايشته للقضية في كتابه المهم "الإخوان المسلمون: محنة 1965م: الزلزال والصحوة" الصادر عن دار التوزيع والنشر الإسلامية الباب السادس: التنظيم وقضية التكفير.ويقول المهندس الصروي: "وبالفعل تورط الجميع في الكلام في القضية.. وأخذت منحنى آخر، فبعد أن كانت مجرد فكر نسبه البعض إلى الشهيد سيد قطب بغير حق!!. وبعد أن كانت ردة فعل لأناس معذبين بلا ذنب جنوه إلا أن يقولوا ربنا الله.. صارت قضية عامة تشعبت كثيراً كثيراً.. ثم تطرق الكلام من مجرد فتوى في شخص أو أشخاص إلى تأصيل فقهي وشرعي وفكري.. ثم تطورت إلى منهج عمل وأسلوب حركة، وتكاتف فؤاد علام ضابط المباحث مع المتطرفين في القول بالتكفير، تكاتفوا ليجعلوا لها منهاجاً لجماعة الإخوان المسلمين.. كل هذا وفضيلة المرشد يسمع ويرصد في صمت.. ولكن لما تعلق الكلام بأصول الدعوة ومنهج العمل والحركة بهذه الجماعة كان لا يمكن أن يسكت".صدر القرار بعد نقاش وحوار وصبر استمر خمس سنوات بفصل 28 شخصاً في مزرعة طرة، وأعلن أنهم بعيدون عن منهج الإخوان، وكان منهم أناس لهم سبق في الدعوة، ولكنهم أصروا على تحويل مسار دعوة الإخوان وفق هذا الفكر.نفس هذا الادعاء تكرر مع نشأة جماعات العنف في مطلع السبعينيات وادَّعى البعض أنها أجنحة عسكرية للإخوان حتى قرأت حديثاً غريباً مؤخراً للأخ طلال الأنصاري الوحيد الذي خُفِّف عنه حكم الإعدام في قضية الفنية العسكرية. يدَّعى فيه أن تنظيم الفنية العسكرية كان على صلة بالإخوان ودققت في الحوار الذي إن صحَّ نسبته إلى طلال فهو خطير جداً، ولم أجد شاهداً واحداً يمكن الرجوع إليه من بين الأحياء، فكل شهوده على قصته باتوا بين الأموات: المرشد الراحل الهضيبي، والسيدة الفاضلة المجاهدة زينب الغزالي، والمرحوم صالح سرية، ثم شخصية كانت في عالم الخفاء يقول الأنصاري إنها كانت وراء التنظيم كله وهو "محمد بسيوني".والحقيقة التي قالها القضاء عندما حقق في ذلك الادعاء وتم استجواب الحاجة زينب الغزالي والشيخ محمد الغزالي رحمهما الله وغيرهما من الإخوان، وقتها أنه لا صلة بين الإخوان وبين التنظيم، ثم كانت الأحداث بعد ذلك لتثبت صدقية حكم القضاء، حيث كان عفو الرئيس السادات رحمه الله عن الإخوان، واكتمل خروجهم جميعاً من السجون في عام 1975م ولو كانت هناك شبهة شك في صلة ما لما تم العفو عن الإخوان.
عايشت بنفسيولقد عايشت بنفسي نشأة هذه التنظيمات وابتعادها التام عن الإخوان ورفضها لمنهج عمل الإخوان وزهدها في العمل الإصلاحي السلمي ورغبتها العارمة في التغيير السريع الانقلابي، بهدف الاستحواذ على السلطة التي ستقوم بكل إصلاح من وجهة نظرهم ثم كانت مراجعة أكبر فصائل العنف "الجماعة الإسلامية" عن ذلك النهج، ومازال أيمن الظواهري يتمسك به ويهاجم نهج الإخوان منذ ثلاثين عاماً أو يزيد.
الوفاء لنهج حسن البنا هو من الوفاء لشخصه وتضحياته.اليوم هناك مدارس أصبح لها أنصار في الساحة الإسلامية تنافس مدرسة البنا وتجد لها أنصاراً لسبب أو آخر.ما يهمني هو أن يكون أبناء البنا من الإخوان أوفياء لنهجه عملاً وقولاً ولا أطالبهم بالدفاع عن منهجه ومهاجمة الآخرين، فليس هذا طريقه، ولكنه قال للجميع: "نحن قوم عمليون"، ولذلك المطلوب هو الاستمرار على نهجه وتنقية ما ألصق به عبر سنوات طوال وتوضيحه للكافة وتمييزه عن غيره من المناهج والعمل الدؤوب على هذا الطريق، فالعمل وحده كفيل بالرد على كل المخالفين.