حسن البنا: غواية التنظيم
الرجل المتواضع الذي غمرته ملامح الزعامة.. كان وسطيا أكثر من لاحقيه
كتبه صلاح عيسي بجريدة الشرق الاوسط
على خلاف من اتوا بعده من انصار ومؤيدين، لم يكن حسن البنا رجل حركة فقط، بل رجل حركة واجتهاد. كما كان على خلاف الكثيرين ممن اتوا بعده رجل اعتدال ووسطية، يرى المنفعة في الاحكام الوضعية ويرى المنفعة في الاحزاب، من دون ان يدمغها فورا على انها نتاج حضارة غربية متصادمة مع الحضارة الاسلامية، وله رؤية في حقوق النساء، وفي العلاقة مع الغرب. وبالرغم من مرور مائة عام على ولادة البنا، الا انه ربما ليس مفهوما بالمعنى الحقيقي للكلمة حتى ممن يعتقدون انهم ينتمون الى افكاره. وفي ذكرى مرور 100 عام على ميلاده, ما يزال الجدل يدور حول البنا ودوره في حركة الإخوان وما تفرع عنها من حركات سلكت طريق العنف.
ولد حسن البنا في 24 اكتوبر (تشرين الاول) 1906 في مدينة المحمودية الصغيرة بشمال الدلتا، لعالم دين، يجمع بين دراسة علم الحديث وصناعة اصلاح الساعات وتجليد الكتب. وكانت مقومات الزعامة والقيادة متوفرة لديه، ففي مدرسة الرشاد الإعدادية كان متميزا بين زملائه، حتى أنه عندما تألفت «جمعية الأخلاق الأدبية» وقع اختيار زملائه عليه ليكون رئيسا لمجلس إدارة هذه الجمعية. غير أن تلك الجمعية المدرسية لم ترض فضوله، وزملاءه المتحمسين، فألفوا جمعية أخرى خارج نطاق مدرستهم، سموها «جمعية منع المحرمات»، وكان نشاطها مستمدا من اسمها، عاملا على تحقيقه بكل الوسائل، وطريقتهم في ذلك هي إرسال الخطابات لكل من تصل إلى الجمعية أخبارهم، بأنهم يرتكبون الآثام، أو لا يحسنون أداء العبادات. ثم تطورت الفكرة في رأسه بعد أن التحق بمدرسة المعلمين بدمنهور، فألف «الجمعية الحصافية الخيرية»، التي زاولت عملها في حقلين مهمين:
الأول: نشر الدعوة إلى الأخلاق الفاضلة، ومقاومة المنكرات والمحرمات المنتشرة. والثاني: مقاومة الإرساليات التبشيرية المسيحية. وفي الثالثة عشرة من عمره، شارك في مظاهرات الطلاب اثناء ثورة 1919، التي ساهمت في بلورة عواطفه الوطنية وتوسيع مداركه السياسية، ليدرك بشكل مبهم الصلة بين الاحتلال الاجنبي ومشكلات الوطن. ورث البنا عن امه قوة ارادتها، وعن ابيه حسه الاخلاقي الصارم، وتعلم منه الزهد والتواضع والدأب على العمل والسعي للتعلم والصبر على المكاره، وشغف مثله بالطواف بمجالس الشيوخ وقراءة كتب الفقه والحديث ودواوين الشعر، فاختلطت عاطفته الوطنية الجياشة، بعاطفته الدينية المشتعلة، واصبحتا شيئا واحدا، وارتبط الاحتلال الاجنبي في وجدانه، بالقهر القومي والتخلف الاجتماعي وتدهور الاخلاق العامة وضعف الوازع الديني، وارتبطت النهضة في وجدانه بالتحرر والاستقلال والعودة الى تعاليم الاسلام، باعتباره منهجا للحياة الطيبة.
وفي اثناء دراسته بكلية دار العلوم، بين عامي 1923 و1927، بدأ يتردد على الاندية والتجمعات الاسلامية، التي كانت تموج آنذاك، بمناقشات كثيرة، حول موقع الدين في الدولة الوطنية، التي تمخضت عنها الثورة، التي لم تعد ـ كما كانت حتى عام 1914 ـ ولاية من ولايات دولة الخلافة الاسلامية، او كما اصبحت، خلال الحرب العالمية الاولى، محمية بريطانية يحكمها سلطان في ظل التاج البريطاني، بل تحولت بعد الثورة ونتيجتها، الى دولة وطنية، شبه مستقلة، شبه ديمقراطية، شبه ليبرالية، تأخذ بالنظام الملكي الدستوري، وينص دستورها، على ان الامة مصدر السلطات.
وخلال تلك الفترة، انضم حسن البنا الى الحركة النشيطة، التي استهدفت احياء الخلافة الاسلامية ونقل مركزها الى مصر، بعد ان تخلصت منها تركيا عام 1924، وهي حركة كانت تلقى دعما من الملك فؤاد، الذي كان يريد ان يضيف عمامة الخلافة الى تاج المُلك، ويجمع بين لقب «الملك» و«الخليفة». وبينما رأت القوى الوطنية المصرية الاخرى، ان هذا الانتقال يمكن الملك من الجمع بين السلطتين الدينية والدنيوية، ليصبح هو، وليس الامن، مصدر كل السلطات، رأى الناشطون في حركة احياء الخلافة، واتخاذ مصر مقرا لها، تحديا للهوية الوطنية، وحلا لمشكلة موقع الدين في الدولة الوطنية، يلزم خصومهم من دعاة التغريب موقف الدفاع، ويقضي على نفوذهم المتصاعد.
وفشلت الحركة بسبب اصرار كل حاكم من حكام المسلمين على ان تكون بلده مقرا للخلافة، وتكون رأسا مستقرا لعمامتها، ليجد حسن البنا نفسه، في مواجهة الحقيقة المرة، وهي ان المشكلة تكمن في ابتعاد المسلمين عن تعاليم دينهم، وفي تفرقهم وتشتتهم، وان الحل يكمن في ان يبدأ باحياء الدين نفسه في نفوس الناس، وان عليه ان يصعد الهرم من سفحه، فينشط بين العوام وابناء الطبقات الوسطى الصغيرة، الذين لم تفسد الثقافة عقولهم، ولم يتعرضوا لجراثيم التيارات الوافدة من الغرب، ليخاطب فيهم الفطرة السليمة. وكان من حسن الحظ، ومن سوئه كذلك، انه بدأ حركته من مدينة الاسماعيلية، التي كانت آنذاك اشبه بمستوطنة اوروبية تنحصر بين معسكر جيش الاحتلال في الغرب، ومكاتب شركة قناة السويس في الشرق، تنقسم ـ ديموغرافيا ـ الى احياء افرنجية، يسكنها الاجانب، تضاء بالكهرباء وتصلها المياه النقية وتسودها انماط السلوك الاوروبية، واحياء شعبية فقيرة ومتخلفة ومحرومة من ذلك كله، يسكنها الوطنيون وكان معظمهم يعمل في معسكر جيش الاحتلال او مرافق شركة القناة، وهو ما رسخ، لسوء الحظ، فكرته عن انقسام العالم لشرق وغرب لا التقاء بينهما، بينما يسر له هذا الانقسام الفرصة ليبدأ دعوته داخل الاحياء العربية من المدينة، بين الحرفيين وصغار التجار والموظفين، ليجد استجابة لا تذكيها الفطرة فحسب، بل ويذكيها، كذلك، التحدي المحيط بهم، والماثل امامهم.
ولأنه كان داعية موهوبا، ومنظما عبقريا، ولم يكن فقيها او منظرا او مفكرا، فقد رفض ان ينغمس في الجدل الفقهي، حول بعض المسائل، مثل التوسل وقراءة سورة الكهف يوم الجمعة وثواب قراءة القرآن نيابة عن الميت، الذي قسم المدينة طوال السنوات الثماني السابقة على وصوله اليها، الى حزبين، هما «حزب الشيخ عبد السميع» و«حزب الشيخ موسى»، وأعلن ان الله يرضى منا بالحب والوحدة، ويكره منا الخلاف والفرقة، داعيا بالبعد عن التكلف والتعمق والتوحد حول اصول الدين وقواعده وفروضه وسننه واخلاقه وفصائله وارشاداته، ليكون اسلوبه البسيط في الدعوة احد اهم العوامل، التي حشدت حول الانصار بسرعة مذهلة، وليكون البعد عن مواطن الخلاف الفقهي، كما قال في خطابه امام المؤتمر الخامس، احد الخصائص التي تضررت بها دعوة الاخوان المسلمين. وهكذا كانت جماعة «الاخوان المسلمين» احد الثمار الطبيعية لثورة 1919، التي خرج فيها المصريون يطالبون بالاستقلال التام حتى لو ادى الامر الى الموت الزؤام. لكن الحركة تغيرت وتطورت مع الوقت. ففي فبراير (شباط) 1939، وفي الخطاب الذي ألقاه حسن البنا امام المؤتمر الخامس لجماعة الاخوان المسلمين، الذي شارك في اعماله آلاف من قيادات الجماعة في المحافظات، وكان بمثابة مظاهرة قوة، واعلان بانتقالها الى مرحلة جديدة بعد عشر سنوات على تأسيسها، خاطب المرشد العام حسن البنا اعضاء المؤتمر فقال، «ان طريقكم هذا مرسومة خطواته، موضوعة حدوده، ولست مخالفا هذه الحدود التي اقتنعت بأنها اسلم الطرق للوصول».
وفي تحديده لمراحل هذه الطريق، قال البنا في الخطاب نفسه، انها ثلاث تبدأ بمرحلة نشر الدعوة والتعريف والتبشير بالفكرة، وايصالها الى الجماهير من طبقات الشعب، لتتلوها مرحلة التكوين وتخير الانصار، واعداد الجنود وتعبئة الصفوف من بين هؤلاء، اما الخطوة الثالثة والاخيرة على هذا الطريق، فهي مرحلة التنفيذ والعمل والانتاج، وهي مراحل متتالية، وقد يكون بعضها متوازيا، لكنها لا تطرح ثمارها الا اذا اكتملت.
وفي اضافة مهمة حملتها «رسالة التعاليم مني الى اخوان الكتائب»، التي صدرت في الوقت نفسه، حدد حسن البنا شكل التنظيم وطبيعة العضوية واسلوب العمل في كل واحدة من هذه المراحل الثلاث، ففي مرحلة التعريف والتبشير، يعتمد التنظيم على وحدات ادارية تعمل للخير العام، وتقيم المنشآت النافعة، والدعوة فيها تتوجه للجميع، وباب الجماعة اثناءها مفتوح لكل من يرغب في الانضمام اليها من دون ان يكون ملزما بـ «الطاعة التامة». وفي مرحلة التكوين، التي تهدف الى استخلاص العناصر الصالحة لحمل اعباء الجهاد، فإن الدعوة تتوجه الى «الخواص»، ولا يتصل بها الا من استعد استعدادا حقيقيا لتحمل اعباء جهاد طويل المدى، كثير التبعات. واسلوب التربية خلالها، صوفي بحت من الناحية الروحية، وعسكري بحت من الناحية العملية، وشعار الناحيتين دائما هو: امر وطاعة من غير تردد ولا مراجعة ولا شك ولا حرج. اما في مرحلة التنفيذ، فان الدعوة تقوم على جهاد لا هوادة فيه في سبيل الوصول الى الغاية، وامتحان وابتلاء لا يصبر عليهما الا الصادقون، ونجاح لا يتحقق، الا بكمال الطاعة. وبعد ان استعرض هذه المراحل الثلاث على طريق الدعوة، قال المرشد المؤسس البنا، ان الطريق قد تكون طويلة «لكن ليس هناك غيرها، فمن اراد منكم ان يستعجل ثمرة قبل نضجها، او يقطف ثمرة قبل اوانها، فمن الخير له ان ينصرف عن هذه الدعوة الى غيرها من الدعوات». ولم يكن هؤلاء «المتعجلون الذين يسعون لقطف الثمرة قبل نضجها» سوى فريق من الشبان الجامعيين، بزعامة احمد رفعت «الطالب بكلية التجارة، شقوا عصا الطاعة، خلال العام السابق ـ 1938 ـ على المرشد العام، واتهموه بالقعود عن الجهاد ومهادنة القوى، التي تماطل في تطبيق الشريعة الاسلامية (الاحتلال البريطانى والملك فاروق)، وطالبوا باتخاذ موقف جهادي، واضح، يجابه الحكومة بأنها «كافرة»، لانها لا تحكم بما انزل الله، ويقاوم تبرج النساء بالقوة، وليس بمجرد الدعوة، بإلقاء زجاجات الحبر على ملابس كل امرأة تسير في الطريق سافرة، وبفتح باب التطوع للقتال في صفوف الثورة الفلسطينية الكبرى، التي كانت لا تزال مشتعلة منذ عام 1936، بدلا من الاكتفاء بجمع التبرعات لها.
وفي اسابيع قليلة، اتسع التمرد، واجتذب اليه كتلة معتبرة من اعضاء الجماعة على نحو كاد يهدد البناء، الذي بدأ حسن افندي البنا، مدرس اللغة العربية والخط والدين، بمدرسة الاسماعيلية الابتدائية ـ يضع اساسه، وهو في الثانية والعشرين من عمره، عام 1928، ومنحه كل اهتمامه ووقته، بل وماله القليل، وسخر لخدمته كل خبرته التي اكتسبها حين كان عضوا في الطريقة الحصافية الصوفية، وعلوم التربية وعلم النفس التي درسها في كلية دار العلوم، التي تخرج فيها عام 1927، وكل مواهبه الفطرية كخطيب مفوه، وداعية نشيط، وانسان متواضع يملك قدرة فذة على الايحاء للآخرين بأنه صادق في ما يؤمن به، مخلص لما يدعو اليه، وبالتالي على التأثير فيهم واجتذابهم نحو شخصه ودعوته، لتتحول جماعة الاخوان المسلمين، خلال عشر سنوات فقط، من جمعية دينية صغيرة في مدينة اقليمية بعيدة، لا تختلف عن جمعية الحصافية الخيرية، التي اسسها في مطلع شبابه مثل غيرها من الجمعيات الدينية التي تنشط في مجال العمل الخيري، الى جماعة كبيرة، تضم الافا من الاعضاء يتوزعون على 300 شعبة في مختلف الاقاليم وتبرز كقوة اجتماعية ـ وعلى نحو ما سياسية ـ في الحياة المصرية.
ومع ان مؤيدي حسن البنا من بين اعضاء الجماعة، وأنصار خط الاعتدال والتدرج الذي يتبعه، نجحوا، بعد مجهود، في طرد المتمردين بالقوة لا بالاقناع، بعد ان كانوا قد احتلوا المركز العام ومنعوا المرشد العام من دخوله، لينضم زعيمهم احمد رفعت الى المجاهدين الفلسطينيين بقيادة الشيخ عز الدين القسام ويستشهد معه، وليؤسس انصاره «جماعة شباب محمد» التي فشلت في تطبيق منهجها الجهادي، وتحولت الى جمعية دينية تقليدية للوعظ، الا انهم كانوا قد شتلوا بذرة الاشكالية التي طرحوها في ارض المركز العام، وبين صفوف الدعوة، لتقضي بعد عشر سنوات من هذا التاريخ، على حياة الداعية المقتدر والمنظم الموهوب. ولولا ان غواية الحركة والتنظيم، كانت قد اجتذبت البنا، لتنبه آنذاك، او بعد ذلك، الى ان سد باب الجدل الفقهي، وان كان قد حال دون تبديد مجهوده في مناقشات لا جدوى منها، الا انه حال كذلك، بينه وبين فتح باب الاجتهاد الاسلامي، الذي اغلق بعد القرن الرابع، ليصوغ رؤية اسلامية، تتواءم مع ظروف عصر كان قد اختلف كيفيا عن العصور السابقة عليه، ليستطيع ان يجد لدعوته مكانها، الذي تستحقه كأحد التيارات الاصيلة في الحركة الوطنية، على خريطة دولة وطنية ديمقراطية، هي النمط الذي كان يزحف آنذاك بقوة على العالم الاسلامي، ولما اعتبر الحضارة المعاصرة منتجا غربيا، جاء به الاعداء، وليس حصيلة جهد انساني شارك المسلمون، في فترات ازدهار حضارتهم في وضع الاسس التي قامت عليها عمد هذه الحضارة من بعد. ولو انه فعل، لجنب دعوته كثيرا من المشكلات، وازال من طريقها كثيرا من الاشواك. لم يكن تمرد احمد رفعت اولها.. ولم يكن آخرها.
اما الذي لم يكن يعرفه المتمردون، فهو ان البنا كان قد شرع قبل تمردهم، في تنفيذ المرحلة الثانية من مراحل بناء الدعوة، التي استعجلوا ثمرتها قبل اوانها، وهي مرحلة «التكوين» التي تهدف الى استخلاص العناصر الصالحة لاعباء الجهاد، فحول قسم الرحلات الى قسم للجوالة، وانشأ نظام «الكتائب» ووضعه تحت رعايته الشخصية فكان يمضي ليلة كل اسبوع، مع كتيبة منهم تتكون من اربعين فردا، يؤمهم في الصلاة، ويأكل معهم وجبتي الافطار والعشاء ويلقي عليهم درسا في التكوين النفسي والروحي للداعية، ويفسر لهم آيات القرآن الكريم، ليختار فيما بعد، من بينهم اعضاء «الجهاز الخاص» الذي ضم الاخوان الاكثر شبابا وحماسا، واستعدادا للتضحية، يتلقون دراسات خاصة حول الجهاد في الاسلام ويتدربون على الاعمال الشاقة، وعلى استعمال الاسلحة وتصنيع المفرقعات وجمع المعلومات، والتخلص من الملاحقة البوليسية ومراوغة المحققين. وكانت مرحلة نشر الدعوة والتبشير بالفكرة لا تزال مستمرة وعلى نفس الاسس: تحرك العاطفة الدينية الجياشة وتخاطب الفطرة الانسانية تقدم لها اسلاما بسيطا خاليا من العقد والاشكاليات والمناقشات ومن الاجتهاد والتجديد، ليأخذوا منه ما يرتضونه وما يقدرون عليه، فهو قادر على النفاذ الى قلوب الناس بيسر، لانه يقتصر على المعلوم من الدين بالضرورة، فيتدفقون الى اشرعة الجماعة، لتتحول ـ بعد الحرب الثانية ـ الى امبراطورية ضخمة تضم ما يقرب من 200 الف عضو، وتملك متاجر ومصانع ودارا للصحافة، ولها قيادة علنية على رأس المرشد، تتعاون مع احزاب الاقليات السياسية التي كانت تتداول الحكم في ما بينها، وتنوب عنها احيانا في تأديب خصومها السياسيين، لتكسب كل يوم مزيدا من القوة والنفوذ.
ذلك هو المحيط العام، الذي ليست «الطاعة التامة» واجبا فيه، والذي لا يعرف اعضاؤه او قادته على وجه التحديد ماذا تريد الجماعة، ولا يعرفون عن الاسلام اكثر ما يعرفه سواهم من عوام المسلمين، اما المهم، فهو انهم كانوا يجهلون تماما، ان هنالك محيطا خاصا هو «النظام الخاص، الذي يشكل مدرسة الكادر وميليشيا الجماعة وجناحها العسكري، له قيادة مستقلة، يرأسها المرشد العام، لا يتلقى اعضاؤه فحسب عملية خاصة تؤهلهم للعمل العسكري السري، بل انهم يدرسون فقها خاصا، يتميز عما يدرسه ـ او لا يدرسه ـ عشرات الالوف من اعضاء المحيط العام لجماعة الاخوان المسلمين هو فقه «الجهاد».
ولم يكن تدريس «فقه الجهاد» عن غواية الحركة والتنظيم، التي سخر لها حسن البنا كل مواهبه الى غواية «الاجتهاد»، على نحو ينتهي برؤية اسلامية تناسب القرن العشرين، او لم يكن حتى اجتهادا في هذا الفرع من فروع الفقه، بل كان بحثا عن دافع شرعي يزيد من حماس اعضاء النظام الخاص، للقيام بالواجبات المنوطنة بهم. وخلال سنوات قليلة تعددت عمليات القاء القنابل والزجاجات الحارقة التي يقوم بها اعضاء الجهاز الخاص على مراكز الشرطة وافراد جيش الاحتلال والمكاتب الادارية، ثم على الممتلكات اليهودية، بعد تجدد الصراع بين الفلسطينيين والمستوطنين الصهاينة، فضلا عن دوره في حماية اجتماعات الجماعة، وفي تأديب اعدائها.
ومع اتساع عضويته ليضم عدة مئات من المقاتلين المدربين، وتنامي موارده المالية، نتيجة لاستقلاله بادارة مشروعات اقتصادية لحسابه، وزيادة مخزونه من الاسلحة والمتفجرات، بدأ قائده عبد الرحمن السندي، يشعر بأنه صاحب فضل على الجماعة، وان الجهاز الذي يقوده هو الذي منحها ما لها من هيبة ومكانة، وأن ما يقوم به هو عمل فني متخصص لا يجوز لأحد ان يتدخل فيه، حتى لو كان المرشد العام.
اعلن عبد الرحمن السندي التمرد، وبدأ يأخذ قرارات العمليات من دون العودة اليه، ومن دون تقدير سياسي لمدى التوافق، من حيث الهدف والتوقيت، مع سياسات الجماعة والظروف المحيطة بها، الى ان ضبطت كل اوراق وخطط الجهاز الخاص، في سيارة جيب تعطلت بالصدفة، وهي تنقلها من مكان الى آخر. ليصدر رئيس الوزراء المصري ساعتها محمود فهمي النقراشي باشا قرارا بحل جماعة الاخوان المسلمين في 8 ديسمبر (كانون الاول) 1948. وهكذا تقوض البناء الذي امضى حسن البنا يبنيه بيده، فأسرع ملهوفا يحاول البحث عن حل للازمة، عبر التفاوض مع الحكومة، حتى لو كان الثمن هو حل الجهاز الخاص والتخلي عن اعضائه، لكن اعضاء الجهاز لم يتركوا له فرصة للتفاوض، وواصلوا، على الرغم من تعليماته المشددة، عملياتهم، التي وصلت الى ذروتها باغتيال رئيس الوزراء، الذي اصدر قرار الحل.. فما كاد حسن البنا يسمع حتى قال: هذه الرصاصات توجهت الى صدري انا.
وذلك ما كان، اذ قامت الحكومة بالفعل بعملية فقتلته انتقاما لمقتل النقراشي.
وهكذا انتهت حياة البنا، لان غواية التنظيم اجتذبته بعيدا عن غواية الاجتهاد، ليتناسل الجهاز السري، بأساليب نضاله واشكال تنظيمه، في عشرات التنظيمات الاسلامية الجهادية التي تنتشر على خريطة العالم، وليظل الاخرون اسرى غواية الحركة، لا يريدون فتح باب الاجتهاد حتى لا تتفتت وحدتهم وتتشتت ريحهم، وقد غاب عن الجميع حسن البنا وهو يقول في ختام رسالته الى المؤتمر الخامس «ايها الاخوان المسلمون.. إلجموا نزوات العواطف بنظرات العقول.. وانيروا اشعة العقول بلهب العواطف، وألزموا الخيال صدق الحقيقة والواقع، واكتشفوا الحقائق في اضواء الخيال الزاهية البراقة.. ولا تميلوا كل الميل، ولا تصادقوا نواميس الكون فإنها غلابة، ولكن غالبوها واستخدموها وحولوا تيارها واستعينوا ببعضها على بعض». ولكن البنا نفسه لم يأخذ بهذه النصيحة البليغة.
No comments:
Post a Comment
abdoumonem@gmail.com